الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **
اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب وأن الانتفاع به ليس إلى غاية ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها وجاز عليهم بها وعنها. وذلك أنهم لما سمعوا قول الله - سبحانه وعلا عما يقول الجاهلون علوا كبيراً - ولو كان لهم أنس بهذه اللغة الشريفة أو تصرف فيها أو مزاولة لها لحمتهم السعادة بها ما أصارتهم الشقوة إليه بالبعد عنها. وسنقول في هذا ونحوه ما يجب مثله. ولذلك ما قال رسول الله صلى اله عليه وسلم لرجل لحن: أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل فسمي اللحن ضلالاً وقال عليه السلام: رحم الله امرأ أصلح من لسانه وذلك لما علمه صلى الله عليه وسلم مما يعقب الجهل لذلك من ضد السداد. وزيغ الاعتقاد. وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جارٍ على المجاز وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة. وقد قدمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره. فلما كانت كذلك وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها وانتشار أنحائها جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم وعادتهم في استعمالها. وذلك أهم يقولن: هذا الأمر يصغر في جنب هذا أي بالإضافة إليه وقرنه به. فكذلك قوله تعالى: وإذا كان أصله اتساعاً جرى بعضه مجرى بعض. وكذلك قوله - صلى اله عليه وسلم -: كل الصيد في جنب الفرأ وجوف الفرأ أي كأنه يصغر بالإضافة إليه وإذا قيس به. وكذلك قوله - سبحانه -: فإن شئت قلت: إن الوجه هنا مصدر محذوف الزيادة كأنه وضع الفعل موضع الافتعال كوحده وقيد الأوابد - في أحد القولين - ونحوهما. وإن شئت قلت: خرج مخرج الاستعارة. وذلك أن وجه الشيء أبدا هو أكرمه وأوضحه فهو المراد منه والمقصود إليه. فجرى استعمال هذا في القديم - سبحانه - مجرى العرف فيه والعادة في أمثاله. أي لو كان - تعالى - مما يكون له وجه لكان كل موضع توجه إليه فيه وجها له إلا أنك إذا جعلت الوجه في القول الأول مصدرا كان في المعنى مضافا إلى المفعول دون الفاعل لأن المتوجه إليه مفعول في المعنى فيكون إذاً من باب قوله - عز وجل - وقوله تعالى { مما عملته أيدينا } إن شئت قلت: لما كان العرف أن يكون أكثر الأعمال باليد جرى هذا مجراه. وإن شئت قلت: الأيدي هنا جمع اليد التي هي القوة فكأنه قال: مما عملته قوانا أي القوى التي أعطيناها الأشياء لا أن له - سبحانه - جسما تحله القوة أو الضعف. ونحوه قولهم في القسم: لعمر الله إنما هو: وحياة الله أي والحياة التي آتانيها الله لا أن القديم سبحانه محل للحياة كسائر الحيوانات. ونسب العمل إلى القدرة وإن كان في الحقيقة للقادر لأن بالقدرة ما يتم له العمل كما يقال: قطعه السيف وخرقه الرمح. فيضاف الفعل إليهما لأنه إنما كان بهما. وقوله تعالى: وقوله: وإن شئت جعلت اليمين هنا القوة كقوله: إذا ما رايةٌ رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين أي بقوته وقدرته. ويجوز أن يكون أراد بيد عرابة: اليمنى على ما مضى. وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين قال: في قول الله - جل اسمه - والاخر باليمين التي هي القوة. والثالث باليمين التي هي قوله: وإن جعلتها القوة لم تكن الباء ظرفا لكنها تكون حرفا معناه الإلصاق والاستعانة به على التشبيه بما يستعان به كقولهم: ضرب بالسيف وقطع بالسكين وحفر بالفأس. هذا هو المعنى الظاهر وإن كان غيره جائزا على التشبيه والسعة. وقوله في الحديث: خلق الله آدم على صورته يحتمل الهاء فيه أن تكون راجعة على اسم الله تعالى وأن تكون راجعة على آدم. فإذا كانت عائدة على اسم الله تعالى كان معناه: على الصورة التي أنشأها الله وقدرها. فيكون المصور حينئذ مضافا إلى الفاعل لأنه - سبحانه - هو المصدر لها لا أن له - عز اسمه - صورة ومثالا كما أن قولهم: لعمر الله إنما معناه: والحياة التي كانت بالله والتي آتانيها الله لا أن له - تعالى - حياة تحله ولا أنه - عز وجهه - محل للآعراض. وإن جعلتها عائدة على آدم كان معناه: على صورة آدم أي على صورة أمثاله ممن هو مخلوق ومدبر فيكون هذا حينئذ كقولك في السيد والرئيس: قد خدمته خدمته أي الخدمة التي تحق لأمثاله وفي العبد والمبتذل: قد استخدمته استخدامه أي استخدام أمثاله ممن هو مأمور بالخفوف والتصرف فيكون إذاً كقوله - عز وجل - فأما قول من طغى به جهله وغلبت عليه شقوته حتى قال في قول الله تعالى وإنما الساق هنا يراد بها شدة الأمر كقولهم: قد قامت الحرب على ساق. ولسنا ندفع من ذلك أن الساق إذا أريدت بها الشدة فإنما هي مشبهة بالساق هذه التي تعلق القدم وأنه إنما قيل ذلك لأن الساق هي الحاملة للجملة المنهضة لها. فذكرت هنا لذلك تشبيها وتشنيعا. فأما أن تكون للقديم - تعالى - جارحة: ساق أو غيرها فنعوذ بالله من اعتقاده أو الاجتياز بطواره. وعليه بيت الحماسة: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح وأما قول ابن قيس في صفة الحرب والشدة فيها: فإنه وجه آخر وطريق من طرق الشدة غير ما تقدم. وإنما الغرض فيه أن الروع قد بز العقيلة - وهي المرأة الكريمة - حياءها حتى ابدت عن ساقها للحيرة والهرب كقول الآخر: لما رايت نساءنا يفحصن بالمعزاء شدا وبدت محاسنها التي تخفى وكان الأمر جدا وقوله: إذا أبرز الروع الكعاب فإنهم مصادٌ لمن يأوى إليهم ومعقل وهو باب. وضده ما أنشده أبو الحسن: أرفعن أذيال الحقي واربعن مشى حيياتٍ كأن لم يفزعن إن تمنع اليوم نساء تمنعن وأذكر يوما وقد خطر لي خاطر مما نحن بسبيله فقلت: لو أقام إنسان على خدمة هذا العلم ستين سنة حتى لايحظى منه إلا بهذا الموضع لما كان مغبونا فيه ولا منتقص الحظ منه ولا السعادة به. وذلك قول الله - عز اسمه وحكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها أي وجدتها عامرة ودخلت بلدة فأخربتها أي وجدتها خرابا ونحو ذلك أو يكون ما قاله الخصم: أن معنى أغفلنا قلبه: منعنا وصددنا نعوذ بالله من ذلك. فلو كان الأمر على ما ذهبوا إليه منه لوجب أن يكون العطف عليه بالفاء دون الواو وأن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. وذلك أنه كان يكون على هذا الأول علة للثاني والثاني مسببا عن الأول ومطاوعا له كقولك: أعطيته فأخذ وسألته فبذل لما كان الأخذ مسببا عن العطية والبذل مسببا عن السؤال. وهذا من مواضع الفاء لا الواو ألا ترى أنك إنما تقول: جذبته فانجذب ولا تقول: وانجذب إذا جعلت الثاني مسبباً عن الأول. وتقول: كسرته فانكسر واستخبرته فأخبر كله بالفاء. فمجئ قوله تعالى واتبع هواه بالواو ودليل على أن الثاني ليس مسببا عن الأول على ما يعتقده المخالف. وإذا لم يكن عليه كان معنى أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي صادفناه غافلا على ما مضى وإذا صودف غافلا فقد غفل لا محالة. فكأنه - والله أعلم -: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا أي لا تطع من فعل كذا وفعل كذا. وإذا صح هذا الموضع ثبت به لنا أصل شريف يعرفه من يعرفه. ولولا ما تعطيه العربية صاحبها من قوة النفس ودربة الفكر لكان هذا الموضع ونحوه مجوزا عليه غير مأبوه له. وأنا أعجب من الشيخين أبوى علي رحمهما الله وقد دوخا هذا الأمر وجولاه وامتخضاه وسقياه ولم يمرر واحد منهما ولا من غيرهما - فيما علمته به - على قربه وسهولة مأخذه. ولله قطرب! فإنه قد أحرز عندي أجرا عظيما فيما صنفه من كتابه الصغير في الرد على الملحدين وعليه عقد أبو علي - رحمه الله - كتابة في تفسير القرآن. وإذا قرأته سقطت عنك الشبهة في هذا الأمر بإذن الله وعونه.
هذا موضع كان أبو علي - رحمه الله - يعتاده ويلم كثيرا به ويبعث على المراجعة له وإلطاف النظر فيه. وذلك أنك تجد في كثير من المنثور والمنظوم الإعراب والمعنى متجاذبين: هذا يدعوك إلى أمر وهذا يمنعك منه. فمتى اعتورا كلاما ما أمسكت بعروة المعنى وارتحت لتصحيح الإعراب. فمن ذلك قول الله تعالى: فإذا كان المعنى مقتضيا له والإعراب مانعا منه احتلت له بأن تضمر ناصبا يتناول الظرف ويكون المصدر الملفوظ به دالاً على ذلك الفعل حتى كأنه قال فيما بعد: يرجعه يوم تبلى السرائر. ودل رجعه على يرجعه دلالة المصدر على فعله. ونحوه قوله تعالى: فإذا كان المعنى عليه ومنع جانب الإعراب منه أضمرت ناصبا يتناول الظرف ويدل المصدر عليه حتى كأنه قال بأخرة: مقتكنم إذ تدعون. وإذا كان هذا ونحوه وقد جاء في القرآن فما أكثره وأوسعه في الشعر! فمن ذلك ما أنشده أبو الحسن من قوله: لسنا كمن حلت إيادٍ دارها تكريت ترقب حبها أن يحصدا فإيادٍ بدل مِن مَن وإذا كان كذلك لم يمكنك أن تنصب دارها بحلت هذه الظاهرة لما فيه من الفصل فحينئذ ما تضمر له فعلا يتناوله فكأنه قال فيما بعد: حلت دارها. وإذا جازت دلالة المصدر على فعله والفعل على مصدره كانت دلالة الفعل على الفعل الذي هو مثله أدنى إلى الجواز وأقرب مأخذا في الاستعمال. ومثله قول الكميت في ناقته: كذلك تيك وكالناظرات صواحبها ما يرى المسحل أي وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها. فإن حملته على هذا كان فيه الفصل المكروه. فإذا كان المعنى عليه ومنع طريق الإعراب منه أضمر له ما يتناوله ودل " الناظرات " على ذلك المضمر. فكأنه قال فيما بعد: نظرن ما يرى المسحل ألا تراك لو قلت: كالضارب زيدٌ جعفرا وأنت تريد: كالضارب جعفرا زيد لم يجز كما أنك لو قلت: إنك على صومك لقادر شهر رمضان وأنت تريد: إنك على صومك شهر رمضان لقادر لم يجز شيء من ذلك للفصل. وما أكثر استعمال الناس لهذا الموضع في محاوراتهم وتصرف الأنحاء " في كلامهم "! وأحد من اجتاز به البحتري في قوله: لا هناك الشغل الجديد بحزوى عن رسوم برامتين قفار فعن في المعنى متعلقة " بالشغل " أي لا هناك الشغل عن هذه الأماكن إلا أن الإعراب مانع منه وإن كان المعنى متقاضيا له. وذلك أن قوله " الجديد " صفة للشغل والصفة إذا جرت على الموصوف آذنت بتمامه وانقضاء أجزائه. فإن ذهبت تعلق " عن " بنفس الشغل على ظاهر المعنى كان فيه الفصل بين الموصول وصلته وهذا فاسد ألا تراك لو قلت: عجبت من ضربك الشديد عمرا لم يجز لأنك وصفت المصدر وقد بقيت منه بقية فكان ذلك فصلا بين الموصول وصلته بصفته. وصحتها أن تقول: عجبت من ضربك الشديد عمرا لأنه مفعول الضرب وتنصب عمرا بدلا من الشديد كقولك: مررت بالظريف عمروٍ ونظرت إلى الكريم جعفر. فإن أردت أن تصف المصدر بعد إعمالك إياه قلت: عجبت من ضربك الشديد عمرا الضعيف أي عجبت من أن ضربت هذا الشديد ضربا ضعيفا. هذا تفسير المعنى. وهذا الموضع من هذا العلم كثير في الشعر القديم والمولد. فإذا اجتاز بك شيء منه فقد عرفت طريق القول فيه والرفق به إلى أن يأخذ مأخذه بإذن الله تعالى. ومنه قول الحطيئة: أزمعت يأساً مبينا من نوالكم ولن ترى طاردا للحر كالياس أي يأساً من نوالكم مبينا. فلا يجوز أن يكون قوله " من نوالكم " متعلقا بيأس وقد وصفه بمبين وإن كان المعنى يقتضيه لأن الإعراب مانع منه. لكن تضمر له حتى كأنك قلت: يئست من نوالكم. ومن تجاذب الإعراب والمعنى ما جرى من المصادر وصفا نحو قولك: هذا رجل دنف وقوم رضا ورجل عدل. فإن وصفته بالصفة الصريحة قلت: رجل دنف وقوم مرضيون ورجل عادل. هذا هو الأصل. وإنما انصرفت العرب عنه في بعض الأحوال إلى أن وصفت بالمصدر لأمرين: أحدهما صناعي والآخر معنوي. أما الصناعي فليزيدك أنسا بشبه المصدر للصفة التي أوقعته موقعها كما أوقعت الصفة موقع المصدر في نحو قولك: أقائماً والناس قعود " أي وأما المعنوي فلأنه إذا وصف بالمصدر صار الموصوف كأنه في الحقيقة مخلوق من ذلك الفعل. وذلك لكثرة تعاطيه له واعتياده إياه. ويدل على أن هذا معنى لهم ومتصور في نفوسهم قوله - فيما أنشدناه -: ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل وضنت علينا والضنين من البخل أي كأنه مخلوق من البخل لكثرة ما يأتي به منه. ومنه قول الآخر: وهن من الإخلاف والولعان وقوله: وهن من الإخلاف بعدك والمطل وأصل هذا الباب عندي قول الله - عز وجل - وقد ذكرنا هذا الفصل فيما مضى. فقولك إذاً: هذا رجل دنف - بكسر النون - أقوى إعرابا لأنه هو الصفة المحضة غير المتجوزة. وقولك: رجل دنف أقوى معنى لما ذكرناه: من كونه كأنه مخلوق من ذلك الفعل. وهذا معنى لا تجده ولا تتمكن منه مع الصفة الصريحة. فهذا وجه تجاذب الإعراب والمعنى فاعرفه وأمض الحكم فيه على أي الأمرين شئت. التفسير على المعنى دون اللفظ باب في التفسير على المعنى دون اللفظ اعلم أن هذا موضع قد أتعب كثيراً من الناس واستهواهم ودعاهم من سوء الرأي وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتابعوا فيه حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة والأقوال المستشنعة إنما دعا إليها القائلين بها تعلقهم بظواهر هذه الأماكن دون أن يبحثوا عن سر معانيها ومعاقد أغراضها. فمن ذلك قول سيبويه في بعض ألفاظه: حتى الناصبة للفعل يعني في نحو قولنا: اتق الله حتى يدخلك الجنة. فإذا سمع هذا من يضعف نظره اعتدها في جملة الحروف الناصبة للفعل وإنما النصب بعدها بأن مضمرة. وإنما جاز أن يتسمح بذلك من حيث كان الفعل بعدها منصوبا بحرف لا يذكر معها فصارت في اللفظ كالخلف له والعوض منه وإنما هي في الحقيقة جارة لا ناصبة. ومنه قوله أيضاً في قول الشاعر: أنا اقتسمنا خطيتنا بيننا فحملت برة واحتملت فجار إن فجار معدولة عن الفجرة. وإنما غرضه أنها معدولة عن فجرة " معرفة علما " على ذا يدل هذا الموضع من الكتاب. ويقويه ورود برة معه في البيت وهي - كما ترى - علم. لكنه فسره على المعنى دون اللفظ. وسوغه ذلك أنه لما أراد تعريف الكلمة المعدول عنها مثل ذلك " بما تعرف " باللام لأنه لفظ معتاد وترك لفظ فجرة لأنه لا يعتاد ذلك علما وإنما يعتاد نكرة وجنسا نحو فجرت فجرة كقولك: تجرت تجرة ولو عدلت برة هذه على هذا الحد لوجب أن يقال فيها: برار كفجار. ومنه قولهم: أهلك والليل فإذا فسروه قالوا: أراد: الحق أهلك قبل الليل. وهذا - لعمري - تفسير المعنى لا تقدير الإعراب فإنه على: الحق أهلك وسابق الليل. ومنه ما حكاه الفراء من قولهم: معي عشرة فاحدهن أي اجعلهن أحد عشر. وهذا تفسير المعنى أي أتبعهن ما يليهن وهو من حدوث الشيء إذا جئت بعده. وأما اللفظ فإنه من " و ح د " لأن أصل أحد وحد ألا ترى إلى قول النابغة: كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد أي منفرد وكذلك الواحد إنما هو منفرد. وقلب هذه الواو المفتوحة المنفردة شاذ ومذكور في التصريف. وقال لي أبو علي - رحمه الله - بحلب سنة ست وأربعين: إن الهمزة في قولهم: ما بها أحد ونحو ذلك مما أحد فيه للعموم ليست بدلا من واو بل هي أصل في موضعها. قال: وذلك أنه ليس من معنى أحد في قولنا: أحد عشر وأحد وعشرون. قال: لأن الغرض في هذه الانفراد والذي هو نصف الاثنين قال: وأما أحد في نحو قولنا: ما بها أحد وديار فإنما هي للإحاطة والعموم. " والمعنيان " - كما ترى - مختلفان. وهكذا قال وهو الظاهر. ومنه قول المفسرين في قول الله تعالى: وإنما جاز هذا التفسير في هذا الموضع لأن النبي إذا كان له أنصار فقد انضموا في نصرته إلى الله فكأنه قال: من أنصاري منضمين إلى الله كما تقول: زيد إلى خير وإلى دعة وستر أي آوٍ إلى هذه الأشياء ومنضم إليها. فإذا انضم إلى الله فهو معه لا محالة. فعلى هذا فسر المفسرون هذا الموضع. ومن ذلك قول الله - عز وجل - وذلك كقولك للرجل لا تشك في ضعفه عن الأمر: هل ضعفت عنه وللإنسان " يحب الحياة " هل تحب الحياة أي فكما تحبها فليكن حفظك نفسك لها وكما ضعفت عن هذا الأمر فلا تتعرض لمثله مما تضعف عنه. وكأن الاستفهام إنما دخل هذا الموضع ليتبع الجواب عنه بأن يقال: نعم فإن كان كذلك فيحتج عليه باعترافه به فيجعل ذلك طريقا إلى وعظه أو تبكيته. ولو لم يعترف في ظاهر الأمر به لم يقو توقيفه عليه وتحذيرة من مثله قوته إذا اعترف به لأن الاحتجاج على المعترف أقوى منه على المنكر أو المتوقف فكذلك قوله سبحانه: هل امتلأت فكأنها قالت: لا فقيل لها: بالغي في إحراق المنكر " كان لك " فيكون هذا خطابا في اللفظ لجهنم وفي المعنى للكفار. " وكذلك " جواب هذا من قولها: هل من مزيد أي أتعلم يا ربنا أن عندي مزيدا. فجواب هذا منه - عز اسمه - لا أي فكما تعلم أن لامزيد فحسبي ما عندي. فعليه قالوا في تفسيره: قد امتلأت فتقول: ما من مزيد. فاعرف هذا ونحوه. ويالله التوفيق.
هذا فصل من العربية حسن. منه قولهم: خشن واخشوشن. فمعنى خشن دون معنى اخشوشن لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو. ومنه قول عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا وتمعددوا: أي اصلبوا وتناهوا في الخشنة. وكذلك قولهم: أعشب المكان فإذا أرادوا كثرة العشب فيه قالوا: اعشوشب. ومثله حلا واحلولي وخلق واخلولق وغدن واغدودن. ومثله باب فعل وافتعل نحو قدر واقتدر. فاقتدر أقوى معنى من قولهم: قدر. كذلك قال أبو العباس وهو محض القياس قال الله سبحانه: وعليه - عندي - قول الله - عز وجل -: وذلك لقوله - عز اسمه -: فزيد في لفظ فعل السيئة وانتقص من لفظ فعل الحسنة لما ذكرنا. ومثله سواءً بيت الكتاب: أنا اقتسمنا خطتينا بيننا فحملت برة واحتملت فجار فعبر عن البر بالحمل وعن الفجرة بالاحتمال. وهذا هو ما قلناه في قوله - عز اسمه -: وذاكرت بهذا الموضع بعض أشياخنا من المتكلمين فسر به وحسن في نفسه. ومن ذلك أيضاً قولهم: رجل جميل ووضئ فإذا أرادوا المبالغة في ذلك قالوا: وضاء وجمال فزادوا في اللفظ " هذه الزيادة " لزيادة معناه قال: والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء وقال: تمشى بجهم حسن ملاح أجم حتى هم بالصياح منه صفيحة وجه غير جمال وكذلك حسن وحسان قال: دار الفتاة التي كنا نقول لها يا ظبيةً عطلا حسانة الجيد وكأن أصل هذا إنما هو لتضعيف العين في نحو المثال نحو قطع وكسر وبابهما. وإنما جعلنا هذا هو الأصل لأنه مطرد في بابه أشد من اطراد باب الصفة وذلك نحو قولك: قطع وقطّع وقام الفرس وقومت الخيل ومات البعير وموتت الإبل ولأن العين قد تضعف في الاسم الذي ليس بوصف نحو قبر وتمر وحمر. فدل ذلك على سعة زيادة العين. فأما قولهم: خطاف وإن كان اسماً فإنه لاحق بالصفة في إفادة معنى الكثرة ألا تراه موضوعا لكثرة الاختطاف به. وكذلك سكين إنما هو موضوع لكثرة تسكين الذابح به. وكذلك البزار والعطار والقصار ونحو ذلك إنما هي لكثرة تعاطي هذه الأشياء وإن لم تكن مأخوذة من الفعل. وكذلك النساف لهذا الطائر كأنه قيل له ذلك لكثرة نسفه بجناحيه. وكذلك الخضارى للطائر أيضاً كأنه قيل له ذلك لكثرة خضرته والحوارى لقوة حوره وهو بياضه. وكذلك الزمل والزميل والزمال إنما كررت عينه لقوة حاجته إلى أن يكون تابعا وزميلا. وهو باب منقاد. ونحو من تكثير اللفظ لتكثير المعنى العدول عن معتاد حاله. وذلك فعال في معنى فعيل نحو طوال فهو أبلغ " معنى من " طويل وعراض فإنه أبلغ معنى من عريض. وكذلك خفاف من خفيف وقلال من قليل وسراع من سريع. ففعال - لعمري - وإن كانت أخت فعيل في باب الصفة فإن فعيلا أخص بالباب من فعال ألا تراه أشد انقياداً منه تقول: جميل ولا تقول: جمال وبطىء ولا تقول: بطاء وشديد ولا تقول: شداد ولحم غريض ولا يقال غراض. فلما كانت فعيل هي الباب المطرد وأريدت المبالغة عدلت إلى فعال. فضارعت فعال بذلك فعالا. والمعنى الجامع بينهما خروج كل واحد منهما عن أصله أما فعال فبالزيادة وأما فعال فبالانحراف به عن فعيل. وبعد فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به. وكذلك إن انحرف به عن سمته وهديته كان ذلك دليلاً على حادث متجدد له. وأكثر ذلك أن يكون ما حدث له زائداً فيه لا منتقصاً منه ألا ترى أن كل واحد من مثالي التحقير والتكسير عارضان للواحد إلا أن أقوى التغييرين هو ما عرض لمثال التكسير. وذلك أنه أمر عرض للإخراج عن الواحد والزيادة في العدة فكان أقوى من التحقير لأنه مبقًّ للواحد على إفراده. ولذلك لم يعتد التحقير سبباً مانعاً من الصرف كما اعتد التكسير مانعاً منه ألا تراك تصرف دريهما ودنينيرا ولا تصرف دراهم ولا دنانير لما ذكرنا من هنا حمل سيبويه مثال التحقير على مثال التكسير فقال تقول: سريحين لقولك: سراحين وضبيعين لقولك: ضباعين: وتقول سكيران: لأنك لا تقول سكارين. هذا معنى قوله وإن لم يحضرنا الآن حقيقة لفظه. وسألت أبا علي عن رد سيبويه مثال التحقير إلى مثال التكسير فأجاب بما أثبتنا آنفاً. فاعرف ذلك إلى ما تقدمه.
نقض الأوضاع إذا ضامها طارىء باب في نقض الأوضاع إذا ضامها طارىء عليها من ذلك لفظ الاستفهام إذ ضامه معنى التعجب استحال خبراً. وذلك قولك: مررت برجل أي رجل. فأنت الآن مخبر بتناهي الرجل في الفضل ولست مستفهماً. وكذلك مررت برجل إيما رجل لأن ما زائدة. وإنما كان كذلك لأن أصل الاستفهام الخبر والتعجب ضرب من الخبر. فكأن التعجب لما طرأ على الاستفهام إنما أعاده إلى أصله: من الخبرية. ومن ذلك لفظ الواجب إذا لحقته همزة التقرير عاد نفياً وإذا لحقت لفظ النفي عاد إيجاباً. وذلك كقول الله سبحانه: وأما دخولها على النفي فكقوله - عز وجل -: وإنما كان الإنكار كذلك لأن منكر الشيء إنما غرضه أن يحيله إلى عكسه وضده. فلذلك استحال به الإيجاب نفياً والنفي إيجاباً. ومن ذلك أن تصف العلم فإذا أنت فعلت ذلك فقد أخرجته به عن حقيقة ما وضع له فأدخلته معنى لولا الصفة لم تدخله إياه. وذلك أن وضع العلم أن يكون مستغنياً بلفظه عن عدة من الصفات فإذا أنت وصفته فقد سلبته الصفة له ما كان في أصل وضعه مراداً فيه: من الاستغناء بلفظه عن كثير من صفاته. وقد ذكرنا هذا الموضع فيما مضى. فتأمل هذه الطريق حتى إذا ورد شيء منها عرفت مذهبه.
من ذلك ما أنشدناه أبو علي - رحمه الله - من قول الشاعر: أنا أبو المنهال بعض الأحيان ليس علي حسبي بضؤلان أنشدنيه - رحمه الله - ونحن في دار الملك. وسألني عما يتعلق به الظرف الذي هو بعض الأحيان فخضنا فيه إلى أن برد في اليد من جهته أنه يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون أراد: أنا مثل أبي المنهال فيعمل في الظرف على هذا معنى التشبيه أي أشبه أبا المنهال في بعض الأحيان. والآخر أن يكون قد عرف من أبي المنهال هذا الغناء والنجدة فإذا ذكر فكأنه قد ذكرا فيصير معناه إلى أنه كأنه قال: أنا المغنى في بعض الأحيان أو أنا النجد في بعض تلك الأوقات. أفلا تراك كيف انتزعت من العلم الذي هو أبو المنهال معنى الصفة والفعلية. ومنه قولهم في الخبر. إنما سميت هانئاً لنهنأ. وعليه جاء نابغة لأنه نبغ فسمي بذلك. فهذا - لعمري - صفة غلبت فبقي عليها بعد التسمية بها بعض ما كانت تفيده من معنى الفعل من قبل. وعليه مذهب الكتاب في ترك صرف أحمر إذا سمي به ثم نكر. وقد ذكرنا ذلك في غير موضع إلا أنك على الأحوال قد انتزعت من العلم معنى الصفة. وقد مر بهذا الموضع الطائي الكبير فأحسن فيه واستوفى معناه فقال: فلا تحسباً هنداً لها الغدر وحدها سجية نفسٍ كل غانية هند فقوله كل غانية هند مثناه في معناه وآخذ لأقصى مداه ألا ترى أنه كأنه قال: كل غانية غادرة أو قاطعة أو خائنة أو نحو ذلك. ومنه قول الآخر: إن الذئاب قد اخضرت براثنها والناس كلهم بكر إذا شبعوا أى إذا شبعوا تعادوا وتغادروا لأن بكراً هكذا فعلها. ونحو من هذا - وإن لم يكن الاسم المقول عليه علماً - قول الآخر: ما أمك اجتاحت المنايا كل فؤادٍ عليك أم كأنه قال: كل فؤاد عليك حزين أو كئيب إذ كانت الأم هكذا غالب أمرها لا سيما مع المصيبة وعند نزول الشدة. ومثله في النكرة أيضاً قولهم: مررت برجل صوفٍ تكته أي خشنة ونظرت إلى رجل خز قميصه أي ناعم ومررت بقاع عرفجٍ كله أي جافٍ وخشن. وإن جعلت كله توكيداً لما في ومن العلم أيضاً قوله: أنا أبو بردة إذ جد الوهل أي أنا المغني والمجدي عند اشتداد الأمر. وقريب منه قوله: أنا أبوها حين تستبغي أبا أي أنا صاحبها وكافلها وقت حاجتها إلى ذلك. ومثله وأحسن صنعة منه: لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيراً ولا دعيت يزيدا أي لا دعيت الفاضل المغنى هذا يريد وليس يتمدح بأن اسمه يزيد لأن يزيد ليس موضوعاً بعد النقل عن الفعلية إلا للعلمية. فإنما تمدح هنا بما عرف من فضله وغنائه. وهو كثير. فإذا مر بك شيء منه فقد عرفتك طريقه.
كان أبو علي - رحمه الله - يرى وجه ذلك ويقول: إنما دخل هذا النحو في كلامهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يعتصمون بها. وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد. هذا معنى قوله وإن لم يكن صريح لفظه. فمن ذلك ما أنشده أحمد بن يحيى: غدا مالك يرمي نسائي كأنما نسائي لسهمي مالكٍ غرضان فيا رب فاترك لي جهينة أعصرا فمالك موتٍ بالقضاء دهاني هذا رجل مات نساؤه شيئاً فشيئاً فتظلم من ملك الموت عليه السلام. وحقيقة لفظه غلط وفساد. وذلك أن هذا الأعرابي لما سمعهم يقولون: ملك الموت وكثر ذلك في الكلام سبق إليه أن هذه اللفظة مركبة من ظاهر لفظها فصارت عنده كأنها فعل لأن ملكاً في اللفظ على صورة فلك فبني منها فاعلاً فقال: مالك موتٍ وغدا مالك. فصار في ظاهر لفظه كأنه فاعل وإنما مالك هنا على الحقيقة والتحصيل مافل كما أن ملكاً على التحقيق مفل وأصله ملأك فألزمت همزته التخفيف فصار ملكاً. واللام فيه فاء والهمزة عين والكاف لام هذا أصل تركيبه وهو " ل أ ك " وعليه تصرفه ومجيء الفعل منه في الأمر الأكثر قال: ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر وأصله: ألئكني فخففت همزته. وقال: ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا وقال: ألكني إلى قومي السلام رسالة بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلا " وقال يونس: ألك يألك ". فإذا كان كذلك فقول لبيد: بألوكٍ فبذلنا ما سأل إنما هو عفول قدمت عينه على فائه. وعلى أنه قد جاء عنهم ألك يألك من الرسالة إلا أنه قليل. وعلى ما قلنا فقوله: أبلغ أبا دختنوس مألكةً غير الذي قد يقال ملكذب إنما هي معفلة. وأصلها ملئكة فقلب على ما مضى. وقد ذكرنا هذا الموضع في شرح تصريف أبي عثمان رحمه الله. فإن قلت: فمن أين لهذا الأعرابي - مع جفائه وغلظ طبعه - معرفة التصريف حتى بنى من " ظاهر لفظ " ملكٍ فاعلا فقال: مالك. قيل: هبه لا يعرف التصريف " أتراه لا " يحسن بطبعه وقوة نفسه ولطف حسه هذا القدر! هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم أو آلف لمذاهبهم لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة فإنه يجده بالقوة ألا ترى أن أعرابياً بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح فلما شرب بعضها كظه الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا! تنحنحت. فقال: من تنحنح فلا أفلح. أفلا تراه كيف استعان لنفسه ببحة الحاء واستروح إلى مسكة النفس بها وعللها بالصويت اللاحق " لها في الوقف " ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابي لا يعلم أن في الكلام شيئاً يقال له حاء فضلاً عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة وأن الصوت يلحقها في حال سكونها والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو إدراجها في حال سكونها في نحو بحر ودحر إلا أنه وإن لم يحسن شيئاً من هذه الأوصاف صنعة ولا علماً فإنه يجدها طبعا ووهماً. فكذلك الآخر: لما سمع ملكاً وطال ذلك عليه أحس من ملك في اللفظ ما يحسه من حلك. فكما أنه يقال: أسود حالك قال هنا من لفظة ملك: مالك وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل ولا أن مالكاً هنا فاعل أو مافل. ولو بني من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل: لائك كبائك وحائك. وإنما مكنت القول في هذا الموضع ليقوى في نفسك قوة حس هؤلاء القوم وأنهم قد يلاحظون بالمنة والطباع ما لا نلاحظه نحن عن طول المباحثة والسماع. فتأمله فإن الحاجة إلى مثله ظاهرة. ومن ذلك همزهم مصائب. وهو غلط منهم. وذلك أنهم شبهوا مصيبة بصحيفة " فكما همزوا صحائف همزوا أيضاً مصائب وليست ياء مصيبة زائدة كياء صحيفة " لأنها عين ومنقلبة عن واو هي العين الأصلية. وأصلها مصوبة لأنها اسم الفاعل من أصاب كما أن أصل مقيمة مقومة وأصل مريدة مرودة فنقلت الكسرة من العين إلى الفاء فانقلبت الواو ياء على ما ترى. وجمعها القياسي مصاوب. وقد جاء ذلك قال: يصاحب الشيطان من يصاحبه فهو أذي جمة مصاوبه وقالوا في واحدتها: مصيبة ومصوبة ومصابة. وكأن الذي استهوى في تشبيه ياء مصيبة بياء صحيفة أنها وإن لم تكن زائدة فإنها ليست على التحصيل بأصل وإنما هي بدل من الأصل والبدل من الأصل ليس أصلاً وقد عومل لذلك معاملة الزائد حكى سيبويه عن أبي الخطاب أنهم يقولون في راية: راءة. فهؤلاء همزوا بعد الألف وإن لم تكن زائدة وكانت بدلاً كما يهمزون بعد الألف الزائدة في فضاء وسقاء. وعلة ذلك أن هذه الألف وإن لم تكن زائدة فإنها بدل والبدل مشبه للزائد. والتقاؤهما أن كل واحد منهما ليس أصلاً. ونحو منه ما حكوه في قولهم في زاي: زاء. وهذا أشد " وأشد " من راءة لأن الألف في راءة على كل حال بدل وهي أشبه بالزائد وألف زاي ليست منقلبة بل هي أصل لأنها في حرف فكان ينبغي ألا تشبه بالزائد إلا أنها وإن لم تكن منقلبة فإنها وقعت موقع المنقلبة لأن الألف هنا في الأسماء لا تكون أصلاً. فلما كان كذلك شبهت ألف زاي لفظاً بألف باب ودار كما أنهم لما احتاجوا إلى تصريف أخواتها قالوا: قوفت قافا ودولت دالا وكوفت كافا ونحو ذلك. وعلى هذا " أيضاً قالوا " زويت زايا وحكى: إنها زاي فزوها. فلما كان كذلك انجذب حكم زاي إلى حكم راءة. وقد حكيت عنهم منارة ومنائر ومزادة ومزائد. وكأن هذا أسهل من مصائب لأن الألف أشبه بالزائد من الياء. ومن البدل الجاري مجرى الزائد - عندي لا عند أبي علي - همزة وراء. ويجب أن تكون مبدلة من حرف علة لقولهم: تواريت عنك إلا أن اللام لما أبدلت همزة أشبهت الزائدة التي في ضهيأة فكما أنك لو حقرت ضهيأة لقلت: ضهيئة فأقررت الهمزة فكذلك قالوا في تحقير وراء: وريئة. ويؤكد ذلك قول بعضهم فيها: ورية كما قالوا في صلاءة: صلية. فهذا ما أراه أنا وأعتقده في " وراء " هذه. وأما أبو علي - رحمه الله - فكان يذهب إلى أن لامها في الأصل همزة وأنها من تركيب " ورأ " وأنها ليست من تركيب " ورى ". واستدل على ذلك بثبات الهمزة في التحقير على ما ذكرنا. وهذا - لعمري - وجه من القول إلا أنك تدع معه الظاهر والقياس جميعاً. أما الظاهر فلأنها في معنى تواريت وهذه اللام حرف علة لا همزة وأن تكون ياء واجب لكون الفاء واواً. وأما القياس فما قدمناه: من تشبيه البدل بالزائد. فاعرف ما رأيناه في هذا. ومن أغلاطهم قولهم: حلأت السويق ورثأت زوجي بأبيات واستلأمت الحجر ولبأت بالحج وقوله: كمشترئٍ بالحمد أحمرة بترا وأما مسيل فذهب بعضهم في قولهم في جمعه: أمسلة إلى أنه من باب الغلط. وذلك لأنه أخذه من سال يسيل " فهو عندهم على مفعل كالمسير والمحيض " وهو عندنا غير غلط لأنهم قد قالوا فيه: مسل وهذا يشهد بكون الميم فاء. فأمسلة ومسلان: أفعلة وفعلان كأجربة وجربان. ولو كانت أمسلة ومسلان من السيل لكان مثالهما: أمفلة ومفلان والعين منهما محذوفة وهي ياء السيل. وكذلك قال بعضهم في معين لأنه أخذه من العين لأنه من ماء العيون فحمله على الغلط لأنهم قد قالوا: قد سالت معنانه وإنما هو عندنا من قولهم أمعن له بحقه إذا طاع له به. وكذلك الماء إذا جرى من العين فقد أمعن بنفسه وطاع بها. ومنه الماعون لأنه " ما من ": العادة المسامحة به والانقياد إلى فعله. وأنشدني " أبو عبد الله الشجري " لنفسه من قصيدة: ترود ولا ترى فيها أريبا سوى ذي شجة فيها وحيد " كذا أنشدني هذه القصيدة مقيدة " فقلت له: ما معنى أريبا فقال: من الريبة. وأخبرنا أبو علي " عن الأصمعي أنه " كان يقول في قولهم للبحر: المهرقان: إنه من قولهم: هرقت الماء. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول بلال بن جرير: إذا ضفتهم أو سآيلتهم وجدت بهم علة حاضره أراد: ساءلتهم " فاعلتهم " من السؤال ثم عن له أن يبدل الهمزة على قول من قال: سايلتهم فاضطرب عليه الموضع فجمع بين الهمزة والياء فقال: سآيلتهم. فوزنه على هذا: فعاعلتهم. ومن أغلاطهم ما يتعايبون به في الألفاظ والمعاني من نحو قول ذي الرمة: والجيد من أدمانةٍ عنود وقوله: حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجي نفسه الهرب وسنذكر هذا ونحوه في باب سقطات العلماء لما فيه من الصنعة. وكذلك غمز بعضهم على بعض في معانيهم كقول بعضهم لكثير في قوله: فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهناً وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها والله لو فعل هذا بأمة زنجية لطاب ريحها ألا قلت كما قال سيدك: ألم ترأني كلما جئت طارقا وجدت بها طيباً وإن لم تطيب وكقول بشار في قول كثير: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة إذا غمزوها بالأكف تلين لقد قبح بذكره العصا في لفظ الغزل هلا قال كما قلت: وحوراء المدامع من معد كأن حديثها " قطع الجمان " وكان الأصمعي يعيب الحطيئة ويتعقبه فقيل له في ذلك فقال: وجدت شعره كله جيداً فدلني على أنه كان يصنعه. وليس هكذا الشاعر المطبوع: إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه: جيده على رديئه. وهذا باب في غاية السعة. وتقصيه يذهب بنا كل مذهب. وإنما ذكرت طريقة " وسمته " لتأتم بذلك وتحقق سعة طرقات القوم في القول. فاعرفه بإذن الله تعالى.
حكي عن الأصمعي أنه صحف قول الحطيئة: وغررتني وزعمت أن ك لابن في الصيف تامر فأنشده: لاتني بالضيف تامر أي تأمر بإنزاله وإكرامه. وتبعد هذه الحكاية " في نفسي " لفضل الأصمعي وعلوه وغير أني رأيت أصحابنا على القديم يسندونها إليه ويحملونها عليه. وحكي أن الفراء " صحف فقال " الجر: أصل الجبل يريد الجراصل: الجبل. وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي عن الخليل بن اسد النوشجاني عن التوزي قال قلت لأبي زيد الأنصاري: أنتم تنشدون قول الأعشى: بساباط حتى مات وهو محزرق وأبو عمرو الشيباني ينشدها: محرزق فقال: إنها نبطية وأم أبي عمرو نبطية فهو أعلم بها وذهب أبو عبيدة في قولهم: لي عن هذا الأمر مندوحة أي متسع إلى أنه من قولهم: انداح بطنه أي اتسع. وليس هذا من غلط أهل الصناعة. وذلك أن انداح: انفعل وتركيبه من دوح ومندوحة: مفعولة وهي من تركيب " ن د ح " والندح: جانب الجبل وطرفه وهو إلى السعة وجمعه أنداح. أفلا ترى إلى هذين الأصلين: تبايناً وتباعداً فكيف يجوز أن يشتق أحدهما من صاحبه على بعد بينهما وتعادي وضعهما. وذهب ابن الأعرابي في قولهم: يوم أرونان إلى أنه من الرنة. وذلك أنها تكون مع البلاء والشدة. وقال أبو علي - رحمه الله -: ليس هذا من غلط أهل الصناعة لأنه ليس في الكلام أفوعال وأصحابنا يذهبون إلى أنه أفعلان من الرونة وهي الشدة في الأمر. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى في قولهم: أسكفة الباب إلى أنها من قولهم: استكف أي اجتمع. وهذا أمر ظاهر الشناعة. وذلك أن أسكفة: أفعلة والسين فيها فاء وتركيبه من " س ك ف وأما استكف فسينه زائدة لأنه استفعل وتركيبه من " ك ف ف. فأين هذان الأصلان حتى يجمعا ويدانى من شملهما. ولو كانت أسكفة من استكف لكانت أسفعلة وهذا مثال لم يطرق فكرا ولا شاعر - فيما علمناه - قلبا. وكذلك لو كانت مندوحة من انداح بطنه - كما ذهب إليه أبو عبيدة - لكانت منفعلة. وهذا أيضاً في البعد والفحش كأسفعلة. ومع هذا فقد وقع الإجماع على أن السين لا تزاد إلا في استفعل وما تصرف منه. وأسكفة ليس من الفعل في قبيل ولا دبير. وذهب أحمد أيضاً في تنور إلى أنه تفعول من النار - ونعوذ بالله من عدم التوفيق. هذا على سداد هذا الرجل وتميزه من أكثر أصحابه - ولو كان تفعولاً من النار لوجب أن يقال فيه: تنوور كما أنك لو بنيته من القول لكان: تقوولا ومن العود: تعوودا. وهذا في نهاية الوضوح. وإنما تنور: فعول من لفظ " ت ن ر " وهو أصل لم يستعمل إلا في هذا الحرف وبالزيادة كما ترى. ومثله مما يستعمل إلا بالزيادة كثير. منه حوشب وكوكب " وشعلع " " وهزنبران " ودودري " ومنجنون " وهو واسع جداً. ويجوز في التنور أن يكون فعنولاً من " ت ن ر " فقد حكى أبو زيد في زرنوق: زرنوقا. ويقال: إن التنور لفظة اشترك فيها جميع اللغات من العرب وغيرهم. فإن كان كذلك فهو طريف إلا أنه على كل حال فعول أو فعنول لأنه جنس ولو كان أعجمياً لا غير لجاز تمثيله " لكونه جنساً ولاحقاً " بالعربي فكيف وهو أيضاً عربي لكونه في لغة العرب غير منقول إليها وإنما هو وفاق وقع ولو كان منقولاً " إلى اللغة العربية من غيرها " لوجب أن يكون أيضاً وفاقاً بين جميع اللغات غيرها. ومعلوم سعة اللغات " غير العربية " فإن جاز أن يكون مشتركاً في جميع ما عدا العربية جاز أيضاً أن يكون وفاقاً وقع فيها. ويبعد في نفسي أن يكون في الأصل للغةٍ واحدة ثم نقل إلى جميع اللغات لأنا لا نعرف له في ذلك نظيرا. وقد يجوز أيضاً أن يكون وفاقاً وقع بين لغتين أو ثلاث أو نحو ذلك ثم انتشر بالنقل في جميعها. وما أقرب هذا في نفسي ! لأنا لا نعرف شيئاً من الكلام وقع الاتفاق عليه في كل لغة وعند كل أمة: هذا كله إن كان في جميع اللغات هكذا. وإن لم يكن كذلك كان الخطب فيه أيسر. وروينا هذه المواضع عن أحمد بن يحيى. وروينا عنه أيضاً أنه قال: التواطخ من الطيخ وهو الفساد. وهذا - على إفحاشه - مما يجمل الظن به لأنه من الوضوح بحيث لا يذهب على أصغر صغير من أهل هذا العلم. وإذا كان كذلك وجب أن يحسن الظن به ويقال إنه " أراد به ": كأنه مقلوب منه. هذا أوجه عندي من أن يحمل عليه هذا الفحش والتفاوت كله. ومن هذا ما يحكى عن خلف أنه قال: أخذت على المفضل الضبي في مجلس واحد ثلاث سقطات: أنشد لامرئ القيس: تمس بأعراف الجياد أكفنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهب فقلت له: عافاك الله! إنما هو نمش: أي نمسح ومنه سمى منديل الغمر مشوشا وأنشد للمخبل السعدي: فقلت: عافاك الله! إنما هو طرفت وأنشد للأعشى: ساعةً أكبر النهار كما ش د محيل لبونه إعتاما فقلت: عافاك الله! إنما هو مخيل بالخاء المعجمة " وهو الذي " رأى خال السحابة فأشفق منها على بهمه فشدها. وأما ما تعقب به أبو العباس محمد بن يزيد كتاب سيبويه في المواضع التي سماها مسائل الغلط فقلما يلزم صاحب الكتاب منه إلا الشيء النزر. وهو أيضاً - مع قلته - من كلام غير أبي العباس. وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس أنه قال: إن هذا كتاب كنا عملناه في أوان الشبيبة والحداثة واعتذر أبو العباس منه. وأما كتاب العين ففيه من التخليط والخلل والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل فضلاً " عن نفسه " ولا محالة أن " هذا تخليط لحق " هذا الكتاب من قبل غيره رحمه الله. وإن كان للخليل فيه عمل فإنما هو أنه أومأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء ولم يله بنفسه ولا قرره ولا حرره. ويدل على أنه قد كان نحا نحوه أني أجد فيه معاني غامضة ونزوات للفكر لطيفة وصنعة في بعض الأحوال مستحكمة. وذاكرت به يوماً أبا علي - رحمه الله - فرأيته منكراً له. فقلت له: إن تصنيفه منساق متوجه وليس فيه التعسف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنف إنسان لغة بالتركية تصنيفاً جيداً أيؤخذ به في العربية! أو كلاماً هذا نحوه. وأما كتاب الجمهرة ففيه أيضاً من اضطراب التصنيف وفساد التصريف ما أعذر واضعه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر. ولما كتبته وقعت في متونه وحواشيه جميعا من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته. ثم إنه لما طال علي أومأت إلى بعضه وأضربت البتة عن بعضه. وكان أبو علي يقول: لما هممت بقراءة رسالة هذا الكتاب على محمد بن الحسن قال لي: يا أبا علي: لا تقرأ هذا الموضع علي فأنت أعلم به مني. وكان قد ثبت في نفس أبي علي على أبي العباس في تعاطيه الرد على سيبويه ما كان لا يكاد يملك معه نفسه. ومعذورا كان " عندي في ذلك " لأنه أمر وضع من أبي العباس وقدح فيه وغض كل الغض منه. وذكر النضر عند الأصمعي فقال: قد كان يجيئني وكان إذا أراد أن يقول: ألف قال: إلف. ومن ذلك اختلاف الكسائي وأبي محمد اليزيدي عند أبي عبيد الله في الشراء أممدود هو أم مقصور. فمدة اليزيدي وقصره الكسائي فتراضيا ببعض " فصحاء العرب و " كانوا بالباب فمدوه على قول اليزيدي. وعلى كل حال فهو يمد ويقصر. وقولهم: أشرية دليل المد " كسقاء " وأسقية. ومن ذلك ما رواه الأعمش في حديث عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة. وكان أبو عمرو بن العلاء قاعداً عنده بالكوفة فقال " الأعمش: يتخولنا وقال أبو عمرو يتخوننا " فقال الأعمش: وما يدريك فقال أبو عمرو: إن شئت أن أعلمك أن الله - عز وجل - لم يعلمك " حرفاً من العربية " أعلمتك. فسأل عنه الأعمش فأخبر بمكانه من العلم. فكان بعد ذلك يدنيه ويسأله عن الشيء إذا أشكل عليه. هذا ما في الحكاية. وعلى ذلك فيتخولنا صحيحة. وأصحابنا يثبتونها. ومنها - عندي - قول البرجمي: يساقط عنه روقه ضارياتها سقاط حديد القين أخول أخولا أي شيئاً بعد شيء. وهذا هو معنى قوله: يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة أي يفرقها ولا يتابعها. ومن ذلك اجتماع الكميت مع نصيب وقد استنشده نصيب من شعره فأنشده الكميت: هل أنت عن طلب الأيفاع منقلب حتى إذا بلغ إلى قوله: أم هل ظعائن بالعلياء نافعة وإن تكامل فيها الدل والشنب عقد نصيب بيده واحداً فقال الكميت: ما هذا فقال أحصي خطأك. تباعدت في قولك: الدل والشنب ألا قلت كما قال ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثات وفي أنيابها شنب ثم أنشده: أبت هذه النفس إلا ادكارا حتى إذا بلغ إلى قوله: كأن الغطامط من غليه أراجيز أسلم تهجو غفارا قال نصيب: ما هجت أسلم غفاراً قط. فوجم الكميت. وسئل الكسائي في مجلس يونس عن أولقٍ: ما مثاله من الفعل فقال: أفعل. فقال له يونس: استحييت لك يا شيخ! والظاهر عندنا من أمر أولق أنه فوعل من قولهم: ألق الرجل فهو مألوق أنشد أبو زيد: تراقب عيناها القطيع كأنما يخالطها من مسه مس أولق وقد يجوز أن يكون: أفعل من ولق يلق إذا خف وأسرع قال: يتبعن سامية العينين تحسبها مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل والأولق: الحنون. ويجوز أيضاً أن يكون فوعلا من ولق هذه. وأصلها - على هذا - وولق. فلما التقت الواوان في أول الكلمة همزوا الأولى منهما على العبرة في ذلك. وسئل الكسائي أيضاً في مجلس يونس عن قولهم: لأضربن أيهم يقوم لم لا يقال: لأضربن أيهم. فقال: أي هكذا خلقت. ومن ذلك إنشاد الأصمعي لشعبة بن الحجاج قول فروة بن مسيك المرادي: فما جبنوا أني أشد عليهم ولكن رأوا ناراً تحس وتسفع فقال شعبة: ما هكذا أنشدنا سماك بن حرب. إنما أنشدنا: " تحش " بالشين معجمة. قال الأصمعي: فقلت: تحس: تقتل من قول الله - تعالى - فقال لي شعبة: لو فرغت للزمتك. وأنشد رجل من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قول ابن قيس الرقيات: إن الحوادث بالمدينة قد أوجعنني وقرعن مروتيه فانتهره أبو عمرو فقال: ما لنا ولهذا الشعر الرخو! إن هذه الهاء لم توجد في شيء من الكلام إلا أرخته. فقال له المديني: قاتلك الله! ما أجهلك بكلام العرب! قال الله - عز وجل - في كتابه: قال أبو هفان: وأنشد هذا الشعر عبد الملك بن مروان فقال: أحسنت يا ابن قيس لولا أنك خنثت قافيته. فقال يا أمير المؤمنين ما عدوت قول الله - عز وجل - في كتابه قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: أتجيز: إنك لتبرق لي وترعد فقال: لا إنما هو تبرق وترعد. فقلت له: فقد قال الكميت: أبرق وأرعد يا يزي د فما وعيدك لي بضائر فقال: هذا جرمقاني من أهل الموصل ولا آخذ بلغته. فسألت عنها أبا زيد الأنصاري فأجازها. فنحن كذلك إذ وقف علينا أعرابي محرم فأخذنا نسأله. فقال " أبو زيد ": لستم تحسنون أن تسألوه. ثم قال له: كيف تقول: إنك لتبرق لي وترعد. فقال له الأعرابي: أفي الجخيف تعني أي التهدد. فقال: نعم. فقال الأعرابي: إنك لتبرق لي وترعد. فعدت إلى الأصمعي فأخبرته فأنشدني: إذا جاوزت من ذات عرق ثنيةً فقل لأبي قابوس: ما شئت فارعد وقال أبوحاتم أيضاً: قرأت على الأصمعي رجز العجاج حتى وصلت إلى قوله: جأباً ترى بليته مسحجا فقال:. . . تليله فقلت: بليته. فقال: تليله مسحجا فقلت له: أخبرني به من سمعه من فلق في رؤبة أعني أبا زيد الأنصاري فقال: هذا لا يكون " فقلت: جعل " مسحجا " مصدراً أي تسحيجاً. فقال: هذا لا يكون ". فقلت: قال جرير: ألم تعلم مسرحي القوافي أي تسريحي. فكأنه توقف. فقلت: قد قال الله - تعالى - ومن ذلك إنكار أبي حاتم على عمارة بن عقيل جمعه الريح على أرياح. قال: فقلت له فيه: إنما هي أرواح. فقال: قد قال - عز وجل - فعلمت بذلك أنه ممن لا يجب أن يؤخذ عنه. وقال أبو حاتم: كان الأصمعي ينكر زوجة ويقول: إنما هي زوج. ويحتج بقول الله - تعالى - قال: وقد قرأنا عليه " من قبل " لأفصح الناس فلم ينكره: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والطامعون إلي ثم تصدعوا وقال آخر: من منزلي قد أخرجتني زوجتي تهر في وجهي هرير الكلبة وقد كان يعاب ذو الرمة بقوله: حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب فقيل: إنما يقال: دوى في الأرض ودوم في السماء. وعيب أيضاً في قوله: والجيد من أدمانة عنود فقيل: إنما يقال: أدماء وآدم. والأدمان جمع كأحمر وحمران وأنت لا تقول: حمرانة ولا صفرانة. وكان أبو علي يقول: بني من هذا الأصل فعلانة كخمصانة. وهذا ونحوه مما يعتد في أغلاط العرب إلا أنه لما كان من أغلاط هذه الطائفة القريبة العهد جاز أن نذكره في سقطات العلماء. ويحكى أن أبا عمرو رأى ذا الرمة في دكان طحان بالبصرة كأنما عينها منها وقد ضمرت وضمها السير في بعض الأضى ميم فقيل له: من أين عرفت الميم فقال: والله ما أعرفها إلا أني رأيت معلماً خرج إلى البادية فكتب حرفاً فسألته عنه فقال: هذا الميم فشبهت به عين الناقة. وقد أنشدوا: كما بينت كاف تلوح وميمها وقد قال أبو النجم: أقبلت من عند زياد كالخرف تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف وحكى أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى عن سلمة قال: حضر الأصمعي وأبو عمرو الشيباني عند أبي السمراء فأنشده الأصمعي: بضرب كآذان الفراء فضوله وطعنٍ كتشهاق العفا هم بالنهق ثم ضرب بيده إلى فرو كان بقربه يوهم أن الشاعر أراد فرواً. فقال أبو عمرو: أراد الفرو. فقال الأصمعي: هكذا راويتكم!. ويحكى عن رؤبة في توجهه إلى قتيبة بن مسلم أنه قال: جاءني رجلان فجلسا إلي وأنا أنشد شيئاً من شعري فهمسا بينهما فتفقت عليهما فهمدا. ثم سألت عنهما فقيل لي: الطرماح والكميت. فرأيتهما ظريفين فأنست بهما. ثم كانا يأتياني فيأخذان الشيء بعد الشيء من شعري فيودعانه أشعارهما. وقد كان قدماء أصحابنا يتعقبون رؤبة وأباه ويقولون: تهضما اللغة وولداها وتصرفا فيها غير تصرف الأقحاح فيها. وذلك لإيغالهما في الرجز وهو مما يضطر إلى كثير من التفريع والتوليد لقصره ومسابقة قوافيه. وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد بإسناده عن الأصمعي قال: قال لي الخليل: جاءنا رجل فأنشدنا: ترافع العز بنا فارفنععا فقلنا: هذا لا يكون. فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنسسا فهذا ونحوه يدلك على منافرة القوم لهما وتعقبهم إياهما وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما مضى من هذا الكتاب وقلنا في معناها: ما وجب هناك. وحكى الأصمعي قال: دخلت على حماد بن سلمة وأنا حدث فقال لي: كيف تنشد قول الحطيئة: " أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ماذا. فقلت ": فقال: يا بنى أحسنوا البنا. يقال: بنى يبنى بناء في العمران وبنا يبنوُ بناً في الشرف. هكذا هذه الحكاية رويناها عن بعض أصحابنا. وأما الجماعة فعندها أن الواحد من ذلك: بنية وبنية فالجمع على ذلك: البنى والبنى. وأخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن القاسم الذهبى بإسناده عن أبي عثمان أنه كان عند أبي عبيدة فجاءه رجل فسأله فقال له: كيف تأمر من قولنا: عنيت بحاجتك فقال له أبو عبيدة: أعن بحاجتى. فأومأت إلى الرجل: أى ليس كذلك. فلما خلونا قلت له: إنما يقال: لتعن بحاجتى. قال: فقال لى أبو عبيدة: لا تدخل إلي. فقلت: لم. فقال: لأنك كنت مع رجل خوزى سرق منى عاما أول قطيفة لى. فقلت: لا والله ما الأمر كذلك: ولكنك سمعتنى أقول ما سمعت أو كلاما هذا معناه. وحدثنا أبو بكر محمد بن علي المراغي قال: حضر الفراء أبا عمر الجرمي فأكثر سؤاله إياه. قال: فقيل لأبي عمر: قد أطال سؤالك أفلا تسأله! فقال له أبو عمر: يا أبا زكرياء ما الأصل في قم فقال: اقوم. قال: فصنعوا ماذا قال: استثقلوا الضمة على الواو فأسكنوها ونقلوها إلى القاف. فقال له أبو عمر: هذا خطأ: الواو إذا اسكن ما قبلها جرت مجرى الصحيح ولم تستثقل الحركات فيها. ويدل على صحة قول أبي عمر إسكانهم إياها وهى مفتوحة في نحو يخاف وينام ألا ترى أن أصلهما: يخوف وينوم. وإنما إعلال المضارع هنا محمول على إعلال الماضى. وهذا مشروح في موضعه. ومن ذلك حكاية أبي عمر مع الأصمعى وقد سمعه يقول: أنا أعلم الناس بالنحو فقال له الأصمعى: يا أبا عمر كيف تنشد قول الشاعر: قد كن يخبأن الوجوه تسترا فالآن حين بدأن للنظار بدأن أو بدين فقال أبو عمر: بدأن. فقال الأصمعى: يا أبا عمر أنت أعلم الناس بالنحو! - يمازحه - إنما هو بدون أى ظهرن. فيقال: إن أبا عمر تغفل الأصمعى فجاءه يوما وهو في مجلسه فقال له أبو عمر: كيف تحقر مختارا. فقال الأمصعى: مخيتير. فقال له أبو عمر: أخطأت إنما هو مخير أو مخيير تحذف التاء لأنها زائدة. حدثني أبو علي قال: اجتمعت مع أبي بكر بن الخياط عند أبي العباس المعمرى بنهر معقل في حديث حدثنيه طويل. فسألته عن العامل في إذا من قوله - سبحانه -: فكلمته إلى أن أمسك. وسألته عن غيرها وعن غيرها. وافترقنا. فلما كان الغد اجتمعت معه عند أبي العباس وقد أحضر جماعة من أصحابه فسألونى فلم أر فيهم طائلا. فلما انقضى سؤالهم قلت لأكبرهم: كيف تبنى من سفرجل مثل عنكبوت فقال: سفرروت. فلما سمعت ذلم قمت في المسجد قائما وصفقت بين الجماعة: سفرروت! سفرروت! فالتفت إليهم أبو بكر فقال: لا أحسن الله جزاءكم! ولا أكثر في الناس مثلكم! وافترقنا فكان آخر العهد به. قال أبو حاتم: قرأ الأخفش: - يعنى أبا الحسن -: { وقولوا للناس حسنى } فقلت: هذا لا يجوز لأن حسنى مثل فعلى وهذا لا يجوز إلا بالألف واللام. قال: فسكت. قال أبو الفتح: هذا عندى غير لازم لأبي الحسن لأن حسنى هنا غير صفة وإنما هو مصدر بمنزلة الحسن كقراءة غيره: ومن الأول البؤس والبؤسى. والنعم والنعمى. ولذلك نظائر. وروينا - فيما أظن - عن محمد بن سلام الجمحى قال: قال لى يونس ابن حبيب: كان عيسى بن عمر يتحدث في مجلس فيه أبو عمر بن العلاء. فقال عيسى في حديثه: ضربه فحشت يده. فقال أبو عمرو: ما تقول يا أبا عمر! فقال عيسى: فحشت يده. فقال أبو عمرو: فحشت يده. قال يونس: التي رده عنها جيدة. يقال حشت يده - بالضم - وحشت يده - بالفتح - وأحشت. وقال يونس: وكانا إذا اجتمعا في مجلس لم يتكلم أبو عمرو مع عيسى الزيادى عن الأصمعى قال: حضر الفرزدق مجلس ابن أبي إسحق فقال له: كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقال الفرزدق: كذا أنشد. فقال ابن أبي إسحق: ما كان عليك لو قلت: فعولين! فقال الفرزدق: لو شئت أن تسبح لسبحت. ونهض فلم يعرف أحد في المجلس ما أراد بقوله: لو شئت أن تسبح لسبحت أى لو نصب لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك وإنما أراد: أنهما تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر قال أبو الفتح: كان هنا تامة غير محتاجة إلى الخبر فكأنه قال: وعينان قال الله: احدثا فحدثتا أو اخرجا إلى الوجود فخرجتا. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: سأل رجل سيبويه عن قول الشاعر: يا صاح ياذا الضامر العنس فرفع سيبويه الضامر فقال له الرجل: إن فيها والرحل ذى الاقتاد والحلس فقال سيبويه: من هذا هربت. وصعد فى الدرجة. فقال أبو الفتح: هذا عندنا محمول على معناه دون لفظه. وإنما أراد: ياذا العنس الضامر والرحل ذى الاقتاد فحمله على معناه دون لفظه. قال أبو العباس: حدثني أبو عثمان قال: جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر. وأنشد: من كان لا يزعم أنى شاعر فيدن منى تنهه المزاجر قال: فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام. فقال: لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف. قال: فقلت: وما الذى اضطره هنا وهو يمكنه أن يقول: فليدن منى قال: فسأل عنى فقيل له: المازنى فأوسع لى. قال أبو الفتح: قد كان يمكن الفراء أن يقول له: إن العرب قد تلزم الضرورة في الشعر في حال السعة أنساً بها واعتياداً لها وإعداداً لها لذلك عند وقت الحاجة إليها ألا ترى إلى قوله: قد أصبحت أم الخيار تدعى على ذنبا كله لم أصنع فرفع للضرورة ولو نصب لما كسر الوزن. وله نظائر. فكذلك قال: " فيدن منى وهو قادر على أن يقول: فليدن منى لما ذكرت. والمحفوظ في هذا قول أبي عمرو لأبي خيرة وقد قال: استأصل الله عرقاتهم - بنصب التاء -: هيهات أبا خيرة لان جلدك! ثم رواها أبو عمرو فيما بعد. وأجاز أيضاً أبو خيرة: حفرت إراتك جمع إرة. وعلى نحوه إنشاد الكوفيين: ألا يزجر الشيخ الغيور بناته وإنشادهم أيضاً: فلما جلاها بالإيام تحيزت ثباتاً عليها ذلها واكتئابها وأصحابنا لا يرون فتح هذه التاء في موضع النصب. وأما عرقاتهم فواحدة كسعلاة. وكذلك إراة: علفة وأصلها وئرة: فعلة فقلبت الفاء إلى موضع اللام فصار: إروة ثم قلبت الواو ألفا فصار إراة مثل الحادى وأصله: الواحد فقلبت الفاء إلى موضع اللام فصار وزنه على اللفظ: عالفا ومثله قول القطامى: ولا تقضى بواقى دينها الطادى أصله: الواطد ثم قلب إلى عالف. وأنا ثباة ففعلة من الثبة وأما بناته ففعلة كقناة كما أن ثباة وسمعت لغاتهم إنما هي واحدة كرطبة. هذا كله إن كان مارووه - من فتح هذه التاء - صحيحا ومسموعا من فصيح يؤخذ بلغته ولم يجز أصحابنا فتح هذه التاء في الجماعة إلا شيئا قاسه أبو عثمان فقال: أقول: لا مسلمات لك - بفتح التاء - قال: لأن الفتحة الآن ليست لمسلمات وحدها وإنما لها وللا قبلها. وإنما يمتنع من فتح هذه التاء ما دامت الحركة في آخرها لها وحدها. فإذا كانت لها ولغيرها فقد زال طريق ذلك الحظر الذي كان عليها. وتقول على هذا: لا سمات بإبلك - بفتح التاء - على ما مضى. وغيره يقول: لا سمات بها - بكسر التاء - على كل حال. وفي هذا مسألة لأبي على - رحمه الله - طويلة حسنة. وقال الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: قال المنتجمع: أعمى على المريض وقال أبو خيرة: غمى عليه. فأرسلوا إلى أم أبى خيرة فقالت: غمى على المريض. فقال لها المنتجع: أفسدك ابنك. وكان وراقا. وقال أبو زيد: قال منتجع: كمء واحدة وكمأة للجميع. وقال أبو خيرة: كمأة واحدة وكمء للجميع مثل تمرة وتمر قال: فمر بهما رؤبة فسألوه فقال كما قال منتجع. وقال أبو زيد: قد يقال: كمأة وكمء كما قال أبو خيرة. وأخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي علي بن بشر بن موسى الأسدى عن الأصمعى قال: اختلف رجلان فقال أحدهما: الصقر وقال الآخر: السقر. فتراضيا بأول وارد يرد عليهما فإذا رجل قد أقبل فسألاه فقال: ليس كما قلت أنت ولا كما قلت أنت وقال الرياشي: حدثني الأصمعى قال: ناظرى المفضل عند عيسى بن جعفر فأنشد بيت أوس: وذات هدم عارٍ نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا فقلت: هذا تصحيف لا يوصف التولب بالإجذاع وإنما هو: جدعا وهو السىء الغذاء. قال: فجعل المفضل يشغب فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب. لو نفخت في شبور يهودى ما نفعك شيئا. ومن ذلك إنكار الأصمعى على ابن الأعرابى ما كان رواه ابن الأعرابى لبعض ولد سعيد بن سلم بحضرة سعيد بن سلم لبعض بنى كلاب: سمين الضواحى لم تؤرقه ليلة وأنعم أبكار الهموم وعونها فرفع ابن الأعرابي ليلة ونصبها الأصمعى وقال: إنما أراد: لم تؤرقه أبكار الهموم وعونها ليلةً وأنعم أى زاد على ذلك. فأحضر ابن الأعرابي وسئل عن ذلك فرفع ليلة فقال الأصمعى لسعيد: من لم يحسن هذا القدر فليس بموضع لتأديب ولدك فنحاه سعيد فكان ذلك سبب طعن ابن الأعرابي على الأصمعى. محمد بن يزيد قال: حدثني أبو محمد التوزى عن أبى عمرو الشيبانى قال: عنناً باطلا وظلما كما تع نز عن حجرة الربيض الظباء فقلت: يا سبحان الله! تعتر من العتيرة. فقال الأصمعى: تعنز أى تطعن بعنزة. فقلت: لو نفخت في شبور اليهودى وصحت إلى التنادى ما كان إلا تعتر ولا ترويه بعد اليوم إلا تعتر. قال أبو العباس قال لى التوزى قال لى أبو عمرو: فقال: والله لا أعود بعده إلى تعنز. وأنشد الأصمعى أبا توبة ميمون بن حفص مؤدب عمرو بن سعيد بن سلم بحضرة سعيد: واحدةٌ أعضلكم شأنها فكيف لو قمت على أربع! قال: ونهض الأصمعى فدار على أربع يلبس بذلك على أبي توبة. فأجابه أبو توبة بما يشاكل فعل الأصمعى. فضحك سعيد وقال لأبي توبة: ألم أنهك عن مجاراته في المعانى هذه صناعته. وروى أبو زيد: ما يعوز له شيء إلا أخذه فأنكرها الأصمعى وقال: إنما هو يعور - بالراء -. وهو كما قال الأصمعى. وقال الأثرم على بن المغيرة: مثقل استعان بدفيه ويعقوب بن السكيت حاضر. فقال يعقوب: هذا تصحيف إنما هو: مثقل استعان بذقنه. فقال الأثرم: إنه يريد الرياسة بسرعة ودخل بيته هذا في حديث لهما. وقال أبو الحسن لأبي حاتم: ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث قال: قلت: قد صنعت فيه شيئا. قال: فما تقول في الفردوس قال: ذكر. قال فإن الله - عز وجل - يقول: قال أبو حاتم: فقال لى التوزى: يا عاقل ! أما سمعت قول الناس: أسألك الفردوس الأعلى فقلت يا نا ئم: الأعلى هنا أفعل لا فعلى! قال أبو الفتح: لا وجه لذكره هنا لأن الأعلى لا يكون أبدا فعلى. أبو عثمان قال: قال لى أبو عبيدة: ما أكذب النحويين! يقولون: إن هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث وسمعت رؤبة ينشد: فكر في علقى وفي مكور فقلت له: واحد العلقى فقال: علقاة. قال أبو عثمان: فلم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا. وقد ذكرنا نحو هذا فيما قبل أو شرحناه. قال أبو الفتح: قد أتينا في هذا الباب من هذا الشأن على أكثر مما يحتمله هذا الكتاب تأنيسا به وبسطا للنفس بقراءته. وفيه أضعاف هذا إلا أن في هذا كافيا من غيره بعون الله.
باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف فيه تصورهم ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له وعلم أنه لم يوفق لاختراعه وابتداء قوانينه وأوضاعه إلا البر عند الله سبحانه الحظيظ بما نوه به وأعلى شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليا - رضى الله عنه - هو البادئه والمنبه عليه والمنشئه والمرشد إليه. ثم تحقق ابن عباس رضى الله عنه به واكتفال ابي الأسود - رحمه الله - إياه. هذا بعد تنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وحضه على الأخذ بالحظ منه ثم تتالى السلف - رحمهم الله - عليه واقتفائهم - آخرا على أول - طريقه. ويكفى من بعد ما تعرف حاله ويتشاهد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه ومجاورا زمانه. حدثنا بعض أصحابنا - يرفعه - قال: قال أبو عمرو بن العلاء - رحمه الله -: مازدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى مايرويه للأعشى من قوله: وأنكرتنى وما كان الذى نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع الباهر والبحر الزاخر الذي هو أبو العلماء وكهفهم وبدء الرواة وسيفهم كيف تخلصه من تبعات هذا العلم وتحرجه وتراجعه فيه إلى الله وتحوبه حتى أنه لما زاد فيه - على سعته وانبثاقه وتراميه وانتشاره - بيتا واحدا وفقه الله للاعتراف به وجعل ذلك عنوانا على توفيق ذويه وأهليه. وهذا الأصمعى - وهو صناجة الرواة والنقلة وإليه محط الأعباء والثقلة ومنه تجنى الفقر والملح وهو ريحانة كل مغتبق ومصطبح - كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره - وهو حدث - لأخذ قراءة نافع عنه. ومعلوم كم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه. وقد ذكرنا في الباب الذي هذا يليه طرفا منه. فأما إسفاف من لا علم له وقول من لا مسكة به: إن الأصمعى كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عنه غير معبوء به ولا منقوم من مثله حتى كأنه لم يتأد إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحوبه من الكلام في الأنواء. ويكفيك من ذا خشنة أبى زيد وأبى عبيدة. وهذا أبو حاتم بالأمس وما كان عليه من الجد والانهماك والعصمة والاستمساك. وقال لنا أبو علي - رحمه الله - يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك أنه كان مع هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائى وعفته وظلفه ونزاهته حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته. وحكى أبو الفضل الرياشي قال: جئت أبا زيد لأقرأ عليه كتابه في النبات فقال: لا تقرأه علي فإني قد أنسيته. وحسبنا من هذا حديث سيبويه وقد حطب بكتابه - وهو ألف ورقة - علما مبتكرا ووضعا متجاوزا لما يسمع ويرى قلما تسند إليه حكاية أو توصل به رواية إلا الشاذ الفذ الذي لا حفل به ولا قدر. فلولا تحفظ من يليه ولزومه طريق ما يعنيه لكثرت الحكايات عنه ونيطت أسبابها به لكن أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته وأدرع جلباب ثقته وحمى جانبه من صدقه وأمانته ما أريد من صون هذا العلم الشريف له به. فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين والمتحلين به في المصرين كثيرا ما يهجن بعضهم بعضا ولا يترك له في ذلك سماء ولا أرضا. قيل له: هذا أول دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنة أو توجهت نحوه شبهة سب بها وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة في رواية أو غمز في حكاية محمى جانب الصدق فيها برئ عند ذكره من تبعتها لكن أخذت عليه إما لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه مغضوض الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين وتعترض على كلتا الطريقتين. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله والمتفيئين بظله كريم الطرفين جدد السمتين لما تسابوا بالهجنة فيه ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه ليطووا ثوبه على أعدل غروره ومطاويه. نعم وإذا كانت هذه المناقضات والمثقافات موجودة بين السلف القديم ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم ممن هم سرج الأنام والمؤتم بهديهم في الحلال والحرام ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه ولا غاضا منه ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه جاز مثل ذلك أيضا في علم العرب الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له ولا يكاد يعدم أهله الأنق به والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقةً وأمانة وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشان وأساس هذا البنيان. وهذا أبو علي رحمه الله كأنه بعد معنا ولم تبن به الحال عنا كان من تحو به وتأنيه وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه. فكان تارة يقول: أنشدت لجرير فيما أحسب وأخرى: قال لي أبو بكر فيما أظن وأخرى: في غالب ظنى كذا وأرى أني قد هذا جزء من جملة وغصن من دوحة وقطرة من بحر مما يقال في هذا الأمر. وإنما أنسنا بذكره ووكلنا الحال فيه إلى تحقيق ما يضاهيه.
|